تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 12 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 12

12 : تفسير الصفحة رقم 12 من القرآن الكريم

** وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ * فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَـَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ
يقول تعالى: {ومنهم أمّيون} أي ومن أهل الكتاب, قاله مجاهد, والأميون جمع أمي, وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة, قال أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى {لا يعلمون الكتاب} أي لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم: أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة, كما قال تعالى {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} وقال عليه الصلاة السلام «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» الحديث, أي لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب, وقال تبارك وتعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه من جهله بالكتاب دون أبيه. قال: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قول خلاف هذا, وهو ما حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله تعالى: {ومنهم أميون} قال الأميون: قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله, ولا كتاباً أنزله الله, فكتبوا كتاباً بأيديهم, ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله, وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله, ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم, وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب. قلت: ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر, والله أعلم. وقوله تعالى: {إلا أماني} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا أماني الأحاديث, وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى {إلا أماني} يقول إلا قولاً يقولون بأفواههم كذباً. وقال مجاهد إلا كذباً: وقال سنيد عن حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} قال أناس من اليهود, لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً, وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب, أماني يتمنونها, وعن الحسن البصري نحوه, وقال أبو العالية والربيع وقتادة: إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إلا أماني, قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم, قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس, وقال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئاً ولكنهم يتخرصون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذباً وزوراً, والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه, ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت, يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب, وقيل المراد بقوله إلا أماني بالتشديد والتخفيف أيضاً: أي إلا تلاوة, فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً, واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {إلا إذا تمنى ـ أي تلا ـ ألقى الشيطان في أمنيته} الاَية, وقال كعب بن مالك الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلةوآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلةتمنى داود الكتاب على رسل

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس {لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} أي ولا يدرون ما فيه, وهم يجدون نبوتك بالظن, وقال مجاهد: {وإن هم إلا يظنون} يكذبون وقال قتادة وأبو العالية والربيع: يظنون بالله الظنون بغير الحق. قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليل} الاَية, هؤلاء صنف آخر من اليهود. وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل, والويل: الهلاك والدمار, وهي كلمة مشهورة في اللغة, وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج, عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره» ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد, عن الحسن بن موسى, عن ابن لهيعة, عن دارج به, وقال هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة (قلت) لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى, ولكن الاَفة ممن بعده, وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوع منكر, والله أعلم. وقال ابن جرير حدثنا المثنى, حدثنا إبراهيم بن عبد السلام, حدثنا صالح القشيري, حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة, عن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} قال «الويل جبل في النار» وهو الذي أنزل في اليهود, لأنهم حرفوا التوراة, زادوا فيها ما أحبوا, ومحوا منها ما يكرهون, ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ولذلك غضب الله عليهم, فرفع بعض التوراة فقال تعالى: {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} وهذا غريب أيضاً جداً, وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب, وقال الخليل بن أحمد: الويل شدة الشر, وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة, وويح لمن أشرف عليها, وقال الأصمعي: الويل تفجع, والويح ترحم, وقال غيره: الويل: الحزن, وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب, ومنهم من فرق بينها, وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأن فيها معنى الدعاء, ومنهم من جوز نصبها بمعنى: ألزمهم ويلاً (قلت) لكن لم يقرأ بذلك أحد, وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} قال: هم أحبار اليهود, وكذا قال سعيد عن قتادة: هم اليهود, وقال سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس رضي الله عنه, عن قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} قال: نزلت في المشركن وأهل الكتاب, وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمناً قليلاً, وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء, وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرؤونه غضاً لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه, وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم, ولا والله ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم, رواه البخاري من طرق عن الزهري, وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وقوله تعالى: {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء, وويل لهم مما أكلوا به من السحت, كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {فويل لهم} يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب, وويل لهم مما يكسبون يقول مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.

** وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
يقول تعالى إخباراً عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة, ثم ينجون منها, فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى {قل أتخذتم عند الله عهد} أي بذلك, فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده, ولكن هذا ما جرى ولا كان, ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل, أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه, قال محمد بن إسحاق عن سيف بن سليمان, عن مجاهد, عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون أن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} إلى قوله {خالدون} ثم رواه عن محمد, عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس بنحوه, وقال العوفي عن ابن عباس {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة, زاد غيره وهي مدة عبادتهم العجل, وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة, وقال الضحاك وقال ابن عباس زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم, وقال أعداء الله إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتلك فذلك قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل وقال عكرمة خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة, وسيخلفنا فيها قوم آخرون, تعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤوسهم «بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد» فأنزل الله عز وجل {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} الاَية, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر, حدثنا محمد بن محمد بن صخر, حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء, حدثنا ليث بن سعد, حدثني سعيد بن أبي سعيد, عن أبي هريرة, قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم, شاة فيها سم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجمعوا لي من كان من اليهود ههنا» فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أبوكم» ؟ قالوا فلان, قال «كذبتم بل أبوكم فلان» فقالوا: صدقت وبررت, ثم قال لهم «هل أنتم صادقّي عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ قالوا نعم يا أبا القاسم, وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أهل النار » ؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً» ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم, قال: «هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟» فقالوا: نعم, قال «فما حملكم على ذلك ؟» فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك, وإن كنت نبياً لم يضر, ورواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه.

** بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون, بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار, {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنوا بالله ورسوله, وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة, وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزبه ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقير} قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس {بلى من كسب سيئة} أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره, فماله من حسنة, وفي رواية عن ابن عباس, قال: الشرك, قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه, وقال الحسن أيضاً والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر, وقال ابن جريج, عن مجاهد {وأحاطت به خطيئته} قال: بقلبه, وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن {وأحاطت به خطيئته} قال: أحاط به شركه, وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم {وأحاطت به خطيئته} قال الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب, وعن السدي وأبي رزين نحوه, وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما, وقتادة والربيع بن أنس {وأحاطت به خطيئته} والموجبة الكبيرة, وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى, والله أعلم. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه, عن أبي عياض, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه «وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة, فحضر صنيع القوم, فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود, والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً, وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه, فلهم الجنة خالدين فيها, يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.

** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ
يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وآنهم تولوا عن ذلك كله, وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه, ويذكرونه, فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً, وبهذا أمر جميع خلقه, ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها, وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له, ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين, ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى: {أن شكر لي ولوالديك إلي المصير} وقال تبارك وتعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسان} إلى أن قال {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} وفي الصحيحين عن ابن مسعود, قلت: يا رسول الله أيّ العمل أفضل ؟ قال «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي ؟ قال «بر الوالدين» قلت: ثم أي ؟ قال «الجهاد في سبيل الله » ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر ؟ قال «أمك» قال: ثم من ؟ قال «أمك» قال: ثم من ؟ قال: «أباك» ؟ ثم أدناك ثم أدناك» وقوله تعالى: {لا تعبدون إلا الله} قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد, وقيل كان أصله {أن لا تعبدوا إلا الله} ونقل من قرأها من السلف, فحذفت أن فارتفع, وحكي عن أبيّ وابن مسعود أنهما قرآها {لا تعبدوا إلا الله} ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبوبه. قال: واختاره الكسائي والفراء, قال {واليتامى} وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الاَباء, والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم, وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحاً في قوله {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسان} الاَية, وقوله تعالى {وقولوا للناس حسن} أي كلموهم طيباً, ولينوا لهم جانباً, ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى {وقولوا للناس حسن} فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح, ويقول للناس: حسناً كما قال الله, وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا أبو عامر الخزاز, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تحقرن من المعروف شيئاً, وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق» وأخرجه مسلم في صحيحه, والترمذي, وصححه من حديث أبي عامر الخزاز واسمه صالح بن رستم به, وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس: حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل, فجمع بين طرفي الاحسان الفعلي والقولي, ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة, فقال {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله, أي تركوه وراء ظهروهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم, وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم, إن الله لا يحب من كان مختالاً فخور} فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها, ولله الحمد والمنة. ومن النقول الغريبة ههنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن خلف العسقلاني, حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي, حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة, عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه, فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني ؟ فقال: إن الله تعالى يقول: {وقولوا للناس حسن} وهو السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه (قلت) وقد ثبت في السنة أنهم لا يُبدؤون بالسلام, والله أعلم.